من باب الجامعة واخبرت السائق بوجهتي.
أزمة تتلوها أزمة وسيارات تملؤ الشوارع حتى ظننت أننا لن نصل ابداً، لكن السائق الذي سيكون لاحقاً هو والدك أخبرني بأنه لاحظ أنني مستعجلة وأنه خدمة لي سيذهب من الطرق الفرعية وهذا بالفعل ما حدث، طرقات لم أرها من قبل، شوارع لولا بقايا ضوء الشمس لما تمكنا من عبورها، دقائق ثم دقائق ثم دقائق وتحول سروري واستعجالي الى خوف وقلق، طلبت من السائق أن يعود بنا إلى الطريق الرئيسية فأخبرني لألا أقلق وبأنني خلال دقائق قليلة ساكون في البيت إلا أن كلامه لم يزندي إلا خوفاً.
دقائق أخرى وكنا في منطقة مهجورة لتقف السيارة مرة واحدة، قال لي إن السيارة ينقصها الماء وإنه سيتوقف لثوان نعود بعدها لاستكمال رحلتنا التي بدت رحلة اللاعودة وهناك هجم والدك علي وقام... رباه! كيف تقوم أمّ بإخبار ولدها بهذا الكلام!
نعم يا (...) والدك قام باغتصابي في سيارته، نفس السيارة التي كان يخرج بها إلى العمل كل يوم، نفس السيارة التي كان يوصلك بها الى المدرسة أحياناً!
اغتصبني وأعادني الى البيت كأي رجل محترم يعيد خطيبته إلى البيت بعد أن ينهيا موعدهما!
عدت إلى البيت منكسرة ذليلة رأسي في الأرض وعيناي تذرفان دمعا لا يتوقف، وبمجرد دخولي إلى البيت عرف والداي ما بي
استجوبتني أمي وعرفت ما بي وعرفت أنني عرفت رقم السيارة التي كان يركبها، وبين الطبيب الشرعي والشرطة وبقية العائلة قضينا ليلتنا وأحضر السائق مخفوراً الى مركز الشرطة وبين سين وجيم اعترف بفعلته.
إلى هنا يكون الوضع طبيعياً، لكن غير الطبيعي والظلم المركب الذي وقع علي وعليك هو أن والدك ووالدي وحفاظا على سمعة العائلة قد اتفقا على ان يعفو والدي عما ارتكب والدم وأن يجبراني على التنازل عن حقي في رفع الدعوى على من فعل بي ما فعل من أجل "السترة "، وهذا ما حدث.
وقد قررت في اللحظة التي شققت فيها يدي أنني مللت اغتصابه لي، وأنك بتّ الآن في عمر قد يكون من الممكن لك فيه أن تعتمد على نفسك وتنجو
“~~~~”
بذرةُ عمّان
ونحن على أبواب الألفين وثلاثة عشر، وتحديداً في اليوم الأول من هذا العام، في حي الكروم أعيش وحدة وغربة، وأشعر بضيق واختناق ووحشة.
نعم كان اسمه حي الكروم واليوم أصبح اسمه "تلاع العلي" وإنني أعنيها تماماً أحيا غربة ووحشة..
ياه .. أفتقد عائلتي، أحبائي أفتقد تلك الابتسامات الجميلة تلك الطفولة البريئة ذاك الهواء النقي والنسمات العليلة ، أذكرها تماماً وكأنها اليوم، أذكر تلك اليدين الحنونتين اللتين كانتا تعتنيان بي وأنا صغيرة كانتا تغمراني بحبها ورعايتها، كانتا تحرصان عليّ، تخافان عليّ، وتحمياني من برد الشتاء وحرارة الصيف هكذا كانت حياتي قبل خمسين عاماً.
حفر ذلك العجوز الطيب ذو الستين عاماً، حفرة صغيرة بجانب والدي ووالدتي وأخوتي الرائعين، وضعني برفق وحنان ثم غطاني بالتراب الأحمر والبسمة تملأ وجهه، فرحت لانتمائي لهذه الأرض لهذه العائلة لهذا المكان، ذاك العجوز الطيب لم يفتأ يوماً يتفقدني ويرقُب نموي شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبحت شتلة يافعة محاطة بالحب من أفراد أسرتي التي تملأ المكان، تزهو بألوانها الخضراء اليانعة.
وجاء اليوم الذي لا أنساه ما حييت حين رحل العجوز وجاء الأغراب واستحلوا أرواح أفراد من عشيرتي فنزعوا جذورهم وأستبدلوها بأوتاد لا روح ولا نبض فيها وغرزوها في الأرض لا أعلم ما كنهها، لعلها أشجار ضخمة من الحديد والطوب رتيبة الألوان بائسة شاحبة لا تناغم فيها تقتصر على الأبيض والأسود وإن تعدته يوماً زادت الرمادي، لايهم.. لايهم ماهي! المهم أنها غريبة عني كل القسوة واللئم في قسماتها إنها بكل بساطة بلا حياة! فحزنت وظننت أنها النهاية بعدما افتقدت الأمان افتقدت الحب والعطف برحيل ذاك القلب الطيب ذاك العجوز الرحيم ألف رحمة تغمر روحه.
وبعد أيام استيقظت على ذرات الماء تتخلل عروقي تروي عطشي الذي لم يطل وفوجئت بيدين صغيرتين تَربِت عليَّ بحنو وعطف وتساءلت في نفسي: من تراه يكون هذا!؟ من هذا الذي ذكرني؟ وردَّ إلي الأمل بعدما كدت أفقده؟
فنظرت إليه! تأملت تفاصيل وجهه حدقت به، كم يشبه ذاك العجوز الطيب!
وبعد فترة وجيزة عرفت بأنه حفيد العجوز، نِعمَ الخلف لخير سلف، ونِعمَ الصبي، إنه ذكي حنون كان يسقيني يقلمني ويغذيني، كان يرعاني وإن مرضت أو تعبت لا يهدء له بالٌ حتى يرد إلي عافيتي، وكنت أراه يكبر وتكبر أحلامه وآماله، كانت تمر الأيام بنا سريعاً وفي كل يوم أراه يكبر أسعد به وبنجاحاته وطموحاته، كنت أرى فيه ذاك العجوز الطيب ولم أكن لأعتب عليه أو ألومه لغيابه ، كنت أغتفر له اهمالي وعطشي وآلامي وأكتفي منه زيارة واحدة في الأسبوع أسعد بها سعادة الأم بصغيرها، وكنت أرفض الاعتراف بتغيره وكنت أرفض حتى مجرد التفكير بأنه يقسو علي، وهكذا مرت الأيام ورغم عطشي ومعناتي وحزني الكبير لفقداني الكثير من أهلي وأسرتي الذين قضوا إما عطشاً وهجراً ومرضاً وإما اقتلعه أحد الغرباء بكل قسوة ، ليزرعوا مكانه الخرسانة والحديد والطوب، ومع هذا لا أزال أسعد به وأغتفر له كل هذا كلما رأيته يجني ثمار عِلمه، إلى أن تخرج وحصل على شهادته الجامعية ففرحت به أكثر مما تفرح الأمَةُ بعتقها، وشعرت بالفخر وطرحت له من الثمار مالم يتوقعه أحد فرحاً بهذا النجاح وظننت بكل سذاجة أنه وبعدما خفت أعباؤه وحصل على مبتغاه لابد وأنه عائد إلي من جديد فقد أعياني التعب والعطش وأنا الآن في أمس الحاجة له أكثر من أي وقت مضى فالوحدة والغربة تقطّعان أوصالي، بعدما غاب جميع الأهل والأصحاب!
والظلمة والوحشة تقتلان روحي بعدما حُجبت أشعة الشمس عني واحتوى هذا الهواء كل شيء إلا الأوكسجين وحوت ذراته كل سُمّ، وبقيت أنتظر زيارته وأترقب لكنه لم يأت، وبدأت عروقي تجف وأزهاري وأوراقي تذبل والظلمة تزداد إلى أن لمحت من بعيد خيالاً مقبل نحوي هللت فرحاً ونسيت جمي
ع آلامي وحاولت جمع أشلائي المشتتة في داخلي كي لا يشعر صديقي الغائب بمعانتي ويحزن لحزني، وأخذ يقترب مني شيئاً فشيئاَ إلى أن دنا مني، فسمعت صوتاً مدوياً واهتزازاً شديداً حاولت فهم مايجري حولي ولمن هذا الخيال حدقت به فلم أعرفه كان أحد الغرباء اللذين أخافهم أولئك اللذين قتلوا عائلتي قتلوا عشيرتي بأكملها وفهمت أخيراً أن هذا اليوم يومي فقد حان دوري! لأرحل ويحل مكاني بعضٌ من الطوب والحديد.
فاستسلمت للأمر فلم يعد يعنيني ذاك الألم الذي ينخر في جذوعي وينتزعها عن جذورها ولم يعد أي شيء في هذا العالم يعنيني، لأنني علمت بأن هذه الأرض لم تعد لي منذ أن سكنها الأغراب الذين لا يفقهون معنى الروح والحياة ولا يرون إلا الحديد الصلب.
“~~~~”
جابر بقلم فرح جبجي
كنت مراراً